بقلم : سي.اس. لويس

ذلك هو مفتاح التاريخ. طاقات هائلة تُبذل، حضارات تُنشأ، مؤسسات ممتازة تُبتكر؛ ولكن كل مرة يخرب شيء أو يفسد. فإن عيباً مهلكاً من نوع ما يُوصل دائماً إلى القمة الأشخاص الأنانيين والعتاة، وإذا بكل شيء يرتد إلى الشقاء والخراب. وفي الواقع ان المكنة تُفرقع وتقرقع. يبدو أنها تنطلق انطلاقة حسنة، ثم تسير بضعة أمتار، ثم تتوقف. وهم يحاولون أن يُسيروها بالوقود الخطأ. ذلك هو ما فعله الشيطان بنا نحن البشر!

وماذا فعل الله؟ أولاً، وضع فينا الضمير، حس الصواب والخطأ؛ وعلى مر التاريخ دأب أناس في محاولة إراحة الضمير (حيث بذل بعضهم أقصى جهدهم). ولكن أياً منهم لم ينجح نجاحاً كاملاً قط. ثانياً، بعث إلى الجنس البشري بما أدعوه “أحلاماً طيبة” أعني تلك القصص الغريبة المتفرقة في ثنايا الديانات الوثنية كلها عن إله يموت ثم يبعث من الموت حياً، وبموته قد أعطى الناس حياةً جديدة على نحو ما. ثالثاً، اختار شعباً معيّناً، وطوى بضعة قرون محاولاً مراراً وتكراراً أن يُرسخ في أذهانهم أي إله هو: أنه واحد فقط ويعنيه السلوك الصائب تماماً. ومعلوم أن هذا الشعب هو اليهود القدامى، وكتاب العهد القديم يحكي خبر محاولات ترسيخ الحق المتكررة.

ثم تحصل الصدمة العجيبة: من بين أولئك اليهود، يبرز فجأة إنسانٌ يجول متكلماً وكأنه الله ذاته! فهو يصرح بأنه يغفر الخطايا. ويقول إنه استمر موجوداً دائماً. ويقول إنه سيأتي كي يدين العالم في آخر الزمان. فلنوضح الآن هذا جلياً. بين القائلين بوحدة الوجود، مثل الهندوس، يمكن لأي إنسان أن يقول إنه جزء من الله، أو إنه هو والله واحد. ولا يكون في ذلك غرابة زائدة. ولكن هذا الرجل، لكونه يهودياً، لم يكن ممكناً أن يعني هذا النوع من الإله. فاللهن في لغتهم يعنى الكائن الموجود خارج نطاق العالم، والذي صنع العالم والمختلف اختلافاً غير محدود عن أي شيء آخر. حتى إذا أدركت ذلك، فلا بد أن تعي أن ما قاله ذلك الرجل كان، بكل بساطة، التصريح الأكثر إذهالاً بين كل ما نطقت به أفواه البشر على الإطلاق!

وينطوي ذلك التصريح، في جزء منه، على أمر يسهل أن يفوت ملاحظتنا له، لأننا طالما سمعناه كثيراً حتى لم نعد ندرك أبعاده الحقيقة. أعني دعوى ذلك الرجل بأنه يغفر الخطايا، أية خطايا! فما لم يكن المتكلم هو الله، تكن هذا الدعوة بالحقيقة مُحالة جداً بحيث تُثير السخرية. ونحن جميعاً نفهم كيف يقدر امرؤ أن يغفر إساءات تُرتكب بحقه هو: كأن تدوس إبهام قدمي فأسامحك، أو تسرق مال فأصفح عنك. ولكن ما قولنا في إنسان لم يتعرض شخصياً للسّلب أو الدّوس، ويُعلن أنه يغفر لك دوسك إبهام إنسان آخر أو سرقتك أموال الآخرين؟ إن ألطف وصف نُطلقه على هذا التصرف هو أنه حماقة بلهاء! غير أن ذلك هو ما فعله يسوع المسيح: لقد قال للناس إن خطاياهم مغفورة لهم، ولم يتمهّل قط ليستشير الآخرين الذين، من غير ريب، آذتهم تلك الخطايا. إنما تصرف بلا تردد كما لو كان هو الفريق المعني أساساً والشخص المُساء إليه جوهرياً في جميع الإساءات والمعاصي. يكون لهذا معنى معقول فقط إذا كان هو بالحقيقة الله الذي خُولفت قوانينه أو شرائعه والذي تجرح كل خطيئة محبته. أما في فم أي متكلم ليس هو الله، فهذا الكلام إنما ينطوي فقط على ما لا يمكنني أن أعده إلا سخفاً وغروراً لا يُجاريه فيهما أي شخص آخر في التاريخ.

غير أنه (وهذا هو الأمر العجيب الغني الدلالة) حتى أعداؤه، حينما يقرأون الأناجيل الأربعة، لا يتكون لديهم عادة أي انطباع بالسخف والغرور؛ ويكون هذا الانطباع أقل أيضاً عند القراء غير المنحازين ثم أن المسيح يقول إنه “وديع ومتواضع القلب” ونحن نصدقه، دون أن نلاحظ أنه لو كان مجرد إنسان لكان الوداعة والتواضع آخر صفتين يمكننا أن نصف بعض أقواله بهما.

إنني أسعى هنا إلى منع أي شخص أن يقول القول الغبي حقاً والذي غالباً ما يقوله الناس بالنسبة إلى المسيح: “أنا مستعد لقبول المسيح على أنه معلم أخلاقي عظيم، ولكنني لا أقبل دعواه بأنه الله”. ذلك القول هو الأمر الوحيد الذي يجب ألا نقوله. إذ أن إنساناً يكون مجرد إنسان ويقول مثل تلك الادعاءات التي قالها يسوع لن يكون معلماً “أخلاقياً” عظيماً. إنه لا بد أن يكون إما مخبولاً، على مستوى واحد مع من يقول إنه بيضة مسلوقة، وإما إبليس الجحيم! إذاً لابد من أن تحسم خيارك: إما أن هذا الشخص هو ابن الله، وإما أنه مجنون، أو أسوأ من ذلك. ولك إما أن تُسكته حاسباً إياه أبله، وتحتقره وتقتله كما لو أنه شيطانٌ، وإما أن تجثو عند قدميه وتدعوه رباً وإلهاً. إنما لا نطلعنّ بأي فكرة استعلائية لا قيمة لها، عن كونه معلماً من البشر عظيماً. فهو لم يترك هذا متاحاً لنا، ولا قصد أن يجعله متاحاً!